كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} ما المائدة؟
المائدة الطعام الموجود في مكانه المعد للأكل وهو لا يخلو من أن يكون على أحد حالين:
إن كان على خوان، خوان الذي يسمى اليوم طاولة الطعام الذي له قوائم هذا في اللغة يسمى خوان بضم الخاء ويسمى خوان بكسر الخاء، هذا ما يسمى في عصرنا بطاولة الطعام إذا كان عليه طعام يسمى مائدة ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليها طعام، تسمى خوان.
وإن كان على ما يسمى اليوم السفرة وهي كلمة فصحى إذا وضع على السفرة يسمى مائدة، ما دام موجود طعام يسمى مائدة، فإن كانت السفرة خالية من الطعام لا تسمى مائدة. وإن كان الخوان- الذي له قوائم الطاولة- ليس عليها طعام لا تسمى مائدة.
المقصود أن الحواريين طلبوا ماذا؟ طلبوا طعاما، طلبوا طعاما إذا عرجنا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه كما عند البخاري من حديث أنس: (لم يأكل على خوان قط) أي ما يسميه اليوم الناس طاولة طعام نقل أنس رضي الله عنه وهو خادم نبينا صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأكل على خوان أي على ما يسمى طاولة طعام قط ولا يعني هذا التحريم قطعا لأن الفعل المجرد لا يدل على حكم ولكنه عليه الصلاة والسلام كان نبيا عبدا ولم يكن نبيا ملكا وكان الأكل على الخوان من دأب الملوك، فكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل حتى يكون أقرب إلى العبودية ولذلك قيل لقتادة راوي الحديث، الحديث رواه البخاري عن أنس لكن الذي روى الحديث عن أنس قتادة بن دعامة السدوسي المشهور قتادة قيل له وهو يحدث قال: حدثني أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث فيه ثلاثة أشياء الذي يهمنا منها: (وما أكل على خوان قط)، فقيل لقتادة: «على أي شيء كانوا يأكلون؟»قال: «على السفرة». والسفرة في السابق كان لها معاليق فتجمع بعضها على بعض وتعلق فيوضع فيها الطعام أحيانا لأن طعامهم كان غالبا ليس ما يحفظ في الثلاجات اليوم وإنما غالب الطعام تمر أو شيء يحفظ فكان يوضع بعضه في السفرة فتعلق فإذا وضعت بين أيدي الناس مدت فإذا مدت أسفرت عما فيها فلما كان الطعام يسفر عما فيه سميت سفرة. وقيل إن السفرة اسم للطعام لكن الأول أقرب فيما نعلم. هذا الطلب الذي تقدم به الحواريون إلى عيسى.
قال لهم عيسى عليه السلام: {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} كأنه عليه السلام استعظم الطلب فلما استعظم الطلب أدلى الحواريون بحجتهم في بيان سبب أنهم طلبوا هذه المائدة، {قالوا} أي الحواريون {نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}، ذكروا كم تعليل؟ أربعة، الآن قبل أن نعرج على التعليلات التي ذكرها الحواريون نقول: إن الحوار والأخذ والعطاء أمر محمود لا يوجد أحد منزه عن الخطأ إلا الأنبياء بما عصمهم الله جل وعلا به، كون الإنسان يناقش ويأخذ ويعطي ويقبل أن يعترض عليه ويعترض على غيره ويقدم أدلة هذا أمر محمود فهذا نبي يطلب منه أنصاره مائدة يقول: {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} يردون عليه يخبرون السبب {نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا..} إلى آخر الآية، ففيه أخذ وعطاء ذلك الرجل المعصوم الذي يجلس على كرسي وينبغي ألا يقول إلا الحق لا يوجد، لا يوجد ولا تبحث عنه، فإن العصمة خصها الله جل وعلا بأنبيائه ورسله وقلنا مرارا المشهور من أقوال العلماء قال مالك رحمه الله: «ما منا إلا وراد ومردود عليه» وقال الشافعي رحمه الله تعالى: «ما أعلم أحدا حفظ السنة كلها»، وقال غيره أشكل من هذا، فلا يوجد أحد تحارب وتعادي وتوالي وتخاصم من أجله، أن مجرد فلان قال ينبغي أن يكون حق لا، لا يوجد هذا الرجل إلا قول نبينا صلى الله عليه وسلم، أما غيره مهما بلغ يعرض قوله على الكتاب والسنة فيقبل ما هو حق ويعتذر له عما أخطى فيه.
فواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم تعتذر له لكن لست ملزما بقوله، والناس منذ أن كانوا يأخذون ويعطون ويقبلون، ومن دلالة علو كعب العالم أنه يناقش ويأخذ ويعطي لكن المهم أن يكون المراد من المناقشة والأخذ والحوار والوصول إلى الحق ليس قضية المجادلة وإظهار علو الصوت ونبذ الأقران والتعالي على الناس، {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} (83) سورة القصص.
{قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}
{قالوا} أي الحواريون {نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} نأكل منها إما لحاجتهم من الفقر الذي كانوا عليه وإما وهو الأظهر أنها لكونها منزلة من السماء بإذن من الله وفضل منه تكون مباركة طيبة فيحسن بلا شك الأكل منها.
{نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا}:
{تطمئن قلوبنا} ينتقلون ينتقلون إلى مرحلة تسمى عين اليقين. لأن الإنسان إذا حدثه أحد من الصادقين بشيء فهذا يقين لكنه إذا رأى الشيء بعينه انتقل من اليقين إلى عين اليقين، ومن أظهر الأدلة موسى عليه السلام فإن الله جل وعلا أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل من بعده فلما أخبره الله جل وعلا اشتاط غضبا ورجع والله تبارك وتعالى أخبر موسى أن قومه اتخذوا العجل من بعده فلما رجع إلى قومه رآهم بعينه يعبدون العجل كان هذا أعظم في عينه أوقع أثرا في نفسه ليس الخبر كالمعاينة فألقى الألواح، لأن الشيء الذي تراه بعينك مهما بلغ ليس كما يقال لك.
نقول هم أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة عين اليقين في أنهم يروا المائدة تنزل فيكون إيمانهم أرفع.
وقد قال العلماء من الفوائد:
أن الإنسان يجدد إيمانه يبحث عن وسائل تزيد من إيمانه ما بين الفينة والفينة وما بين الحين والآخر.
أما ماذا يزيد إيمانه؟ فهذا باب واسع.
{ونعلم أن قد صدقتنا} والخطاب لعيسى {ونكون عليها من الشاهدين} نخبر من بعدنا أن هناك مائدة نزلت فيصبح في فوائد دنيوية وفوائد دينية، فوائد دينية أننا نخبر الناس ونشهد على صدقك وفوائد دنيوية أننا نأكل ونطعم ونسد جوعنا.
{ونكون عليها من الشاهدين} عيسى اقتنع بقولهم قيل: جاء في بعض الآثار أنه أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فصاموا فدعا ربه.
قال الله جل وعلا بعدها: {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} (114) سورة المائدة.
{قال عيسى ابن مريم} أي النبي {اللهم} نحويا أصلها يا الله، نحويا أصل هذا النداء يا الله كلمة {اللهم} أصلها يا الله وإنما العرب تحذف أحيانا حرف النداء فلما حذفت حرف النداء في يا الله عوضت بدلا منه بالميم.- أعيد- أصل اللهم: يا الله ثم حذفوا حرف النداء الذي هو الياء ثم أضافوا ميما بدلا من الياء المحذوفة فأصبحت اللهم، ولا يقال (يا اللهم) بالميم والياء، فلا يجمع ما بين البدل والمبدل منه، لا يجمع ما بين البدل والمبدل منه إلا عند الضرورة الشعرية كما نقل سيبويه وغيره رحمهم الله عن الراجز أنه قال:
إني إذا ما خطب ألما ** أقول يا اللهم يا اللهم

هذا شاهد نحوي المقصود به الجمع بين البدل والمبدل منه، لكن لا يقاس عليه لكن الأصل كما قلنا أن الياء حذفت وأبدلت عنها الميم.
{قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا} وأصلها يا ربنا وحذف حرف النداء فأصبحت رب منادى ولأنه مضاف نصب مباشرة فلذلك جاءت الفتحة على الباء. {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} الآن الذي يدعو عيسى ثم نعت تلك المائدة ذكر بعض أوصافها وتعليلات لذلك الطلب {أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين}.
ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه مصلحتين:
المصلحة الدنيوية: {وارزقنا وأنت خير الرازقين} و{تكون لنا عيدا}.
المصلحة الدينية: أنه قال: {وآية منك} أي علامة وأمارة على أنك قبلت دعاءنا فيكون ذلك سبب في أن يدخل الناس في الدين بعد ذلك أفواجا.
{قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا}.
العيد الشيء الذي يعود ويتكرر لكن لا ينبغي أن يكون ثمة عيد إلا بإذن شرعي، أما أن يتخذ الإنسان من أي مناسبة دينية أو غير دينية عيدا فهذا أمر إذا ربطها بالدين لا يجوز شرعا أما إذا جعلها من باب العادات هذا باب واسع لا يحسن تفصيله الآن، لكن نقول الأشياء الشرعية لا تثبت إلا بشيء شرعي فمثلا: الله جل وعلا على مر العصور يجعل من بعض عبادات أنبيائه ورسله سننا يجتمع الناس عليه فمثلا كلنا الآن في الطواف والسعي نمر على الصفا والمروة لنحيي سنة هاجر لكن هذا الإحياء لم يكن من أنفسنا إنما كان بإذن من من؟ كان بإذن من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نطوف بالبيت كما طاف به إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبل ونرمي الجمار كما رماها إبراهيم من قبل فنحيي ملة إبراهيم لكن هذا أمر لم نجتهد به نحن من أنفسنا وإنما شرعه الله تبارك وتعالى لنا والدين لا يكون باجتهاد شخصي أبدا قال الله جل وعلا {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (21) سورة الشورى.
{تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين}.
قال الله بعدها: {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} (115) سورة المائدة.
أولا: اختلف العلماء هل أنزل الله جل وعلا المائدة أو لم ينزلها؟
الله جل وعلا قال: {إني منزلها} وليس في القرآن أن الله أنزلها فجمهور العلماء من المفسرين على أنها أنزلت، وقالوا: «إن هذا وعد من الله لنبيه والله لا يخلف الميعاد»، وهو الذي نختاره.
ذهب مجاهد رحمه الله تعالى المفسر المعروف تلميذ ابن عباس رضي الله عنه إلى أن الله لم ينزلها لأنه مجرد مثل ضربه الله في كتابه، وهذا أبعد الأقوال عن الصواب في ظننا.
القول الثالث قاله الحسن البصري رحمه الله تعالى وتبعه عليه بعض المفسرين وهو: أن الله لما قال لهم {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} خافوا وطلبوا الإعفاء من نزولها واستغفروا الله ولم تنزل المائدة. هذا قول الحسن البصري رحمه الله. الذين قالوا بهذا الرأي من أدلتهم أن هذه المائدة لم تذكر في الإنجيل الذي بين أيدينا والنصارى لا يعرفون قصتها إلا من القرآن، من أدلة من قال أنها لم تنزل أنهم قالوا إنها غير مذكورة في الإنجيل الموجود وأن النصارى لم يفهموها إلا من المؤمنين. رد جمهور العلماء على هذا القول بأن كونها لم تذكر في الإنجيل هذا من الشيء الذي نسوه الذي قال الله جل وعلا عنهم {فنسوا حظا مما ذكروا به} فهذا من الشيء الذي أنساهم الله جل وعلا إياه. الذي نختاره والله أعلم من هذه الأقوال أن الله جل وعلا أنزلها وهو كما قلنا مذهب جماهير العلماء.
{قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} هنا نتوقف، الآية يا أخي إذا كان ظاهرة وأقيمت الحجة ينقطع العذر فإذا انقطع العذر أصبح الله لا يقبل عنده إما إيمان وإما كفر أو ينزل عذاب، وقف عند هذه وارجع للسيرة، دعك الآن من كتب التفسير، ارجع لسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد من طريقين بإسناد كلاهما جيد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا- الصفا الجبل المعروف- طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا ذهبا قالوا: «إن جعلت الصفا ذهبا آمنا بك!» فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أن يجعل الله الصفا ذهبا حتى يؤمنوا فبعث الله إليه جبرائيل عليه السلام أو ملكا غيره أخبره أنه لو جعل الله الصفا ذهبا ولم يؤمنوا فإن الله سيهلكهم عن بكرة أبيهم، طبعا إذا هلكوا عن بكرة أبيهم لن يكون منهم ماذا؟ مؤمنين لأنهم انتهوا لكن إذا بقوا ولم يهلكهم الله فيه أمل أنهم هم يؤمنوا أو فيه أمل أن يأتي من ظهورهم من؟ من يؤمن، إما أنهم هم يؤمنون كما حدث أو أن يأتي من ظهورهم مؤمنين فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا على حالهم حتى يؤمن منهم من يؤمن أو أن يخرج الله من ظهورهم من يؤمن بالله ومن يعبد الله لا يشرك به شيئا. ولذلك قال الله في سورة الإسراء {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (59) سورة الإسراء. والله إذا أراد أن يرحم أمة أمات نبيها قبل إهلاكها.